نهر ميديا-دير الزور والرقة
عائلات سورية خرجت من جحيم مخيم الهول، أرقام مقلقة وخطوات بطيئة لإعادة دمجها، النساء تبحث عن إجابات شافية حول مصير الآباء والأطفال يمتهنون أعمال شاقة، ما مصير العائدين من مخيم الهول إلى مجتمعاتهم؟ ماهي أهم المعوقات التي يواجهونها؟ وما هي أهم الحلول اللازمة لدمجمهم مع مجتمعاتهم؟
بعد إعلان قوات سوريا الديمقراطية “قسد” وإدارتها المدنية ومجلسها السياسي “مسد” نيتها تفكيك مخيم الهول شرقي سوريا، تعرضت أطراف هذا المخيم المكتظ في (23 تشرين الثاني) من الشهر الحالي لثلاث غارات جوية شنتها طائرات تركية بدون طيار، تزامنت مع تحذير جميع الأطراف المتحاربة في سوريا لعدم التصعيد خشيةً على مصير قاطنيه الذين يتجاوزن عددهم أكثر من 56 ألفاً.
ومنذ أيار 2019 وبعد مبادرة شيوخ العشائر ووجهاء المنطقة بإخراج العائلات السورية التي ترغب بمغادرة المخيم والعودة لمسقط رأسها، خرج أكثر من 10 ألاف شخص 99 بالمائة منهم من النساء والأطفال وعادوا إلى مسقط رأسهم أو استقروا في مناطق نفوذ الإدارة الذاتية. وبحسب توثيقات (لجان حلّ النزاع) وجمعيات مدنية أطلقت حملة (بين أهلكم) هناك أكثر من أربعة آلاف طفل سوري خارج مقاعد الدراسة ومحرومون من حقوقهم في التعليم المدرسي، وقد تمكن 300 طفل فقط من الحصول على حقّهم في التعليم لكن الأرقام الحقيقية أكثر من ذلك بكثير.
ساعات عمل طويلة وأجور زهيدة
وفقاً لتوثيقات منظمة (الرّقة بين الجسرين) و(لجان حل النزاع) هناك عدد كبير من العائلات التي عادت من مخيم الهول لا تحصل على أي مورد مادي أو حتى معونات إغاثية على الرغم من الوعود المقدمة من سلطات الإدارة الذاتية، وبحسب الشهادات التي استمعت لها (نهر ميديا) لا تستطيع تلك العائلات تأمين قوت يومها، الأمر الذي أجبر المئات من الأطفال دون السن القانونية؛ إلى العمل في مهن خطيرة وشاقّة تتصدرها أعمال البناء والعتالة والورشات والمحال الصناعية، مقابل أجور زهيدة تكاد تصل لحدود 10 ألاف ليرة سورية (أقل من 2 دولار أمريكي)، لقاء ساعات عمل طويلة قد تصل في بعضها إلى 12 ساعة يومياً.
تقول سيدة سورية تبلغ من العمر 28 سنة ولديها 4 أطفال ويعيش معها في مسكنها المؤقت 5 من أفراد عائلتها وتعيش في قرية بريف الطبقة، بقيتْ في مخيم الهول قرابة 3 سنوات واليوم تتحسر عليه وتعزو السبب إلى: “كنا في مخيم الهول نسكن بخيم لكن هناك من يقوم برعاية أطفالنا ورعايتنا، سواء معيشة أو صحية وغيرها من مستلزمات الحياة، أما اليوم نسكن بالإيجار بمساكن بعضها سيئة لكن مجبرين ولا يوجد لنا أي مصدر رزق نعيش منه”
وأكدت هذه السيدة عدم تقديم أي جهة مساعدات تذكر مما دفع طفلين من أبنائها لمزاولة مهن شاقة في محال صناعية برواتب متدنية وتابعت قائلة: “لم نرى أي جهة قامت بتفقد أوضاعنا حتى هذه اللحظة سوى أعضاء (لجنة حلّ النزاع) بالطبقة تعمل حسب إمكانياتها المحدودة كوسيط لإيصال معاناتنا”.
وتروي سيدة ثانية قصة خروجها من مخيم الهول والعودة لمسقط رأسها وهي زوجة مسلّح قاتل في صفوف تنظيم د.اعش ومحتجز في سجون قسد منذ 4 سنوات، وهي بعمر 35 سنة، تنحدر من ناحية عين عيسى شمال غربي محافظة الرقة ولديها 3 أطفال
“عانينا ظروفاً قاسية بعد عودتنا بينها منغصات تأمين لوازم الحياة من الخبز والمعونة والمياه النظيفة، إضافةً لتأمين الرعاية الصحية في ظل التلوث والأوبئة المنتشرة، وأكثر المنغصات شعور الغربة والقهر وأنت تعيش بين أهلك وانعدام الأمان”.
وأكثر الهواجس التي واجهت هذه النازحة وغيرها من اللواتي خرجن من الهول وعادت لديارها: “الصراع النفسي بين ما كان وما سيكون، ونعاني الحزن لفقد أغلب أفراد العائلة نتيجة النزوح والهجرة والحرب والقصف”.
أزواج مفقودون والأهالي ينتظرون أجوبة شافية!
تشابهت قصص الكثير من السوريات اللواتي عدن لمدينة الرقة وبلدات ريف دير الزور الشرقي، فالحياة ليست كما توقعنها ليواجهنّ صدمة كبيرة بعد رفض المحيط الاجتماعي التعامل معهنّ؛ بسبب ملاحقة تهمة الانتساب أو الولاء لتنظيم داعش، وبعد خروجها بدأت فصول معاناة جديدة وذاقت الأمرّين لعدم تقبل المجتمع إعادة دمجهن ومواجهة مستقبل مجهول وغياب أوراق شخصية وغالبية الأطفال غير مقيدين في السجلات المدنية.
وتقول سيدة ثالثة من منقطة المنصورة عمرها 40 عاماً وهي أم لسبعة أطفال ويعيش معها 5 من أفراد عائلتها وزوجها مفقود، لا تعلم عنه شيء منذ معركة قرية الباغوز آذار 2019:
“نعم زوجي مفقود ولم نحصل على أيّ معلومات مؤكدة، هذه الحال لا تطاق أريد جواب شافي هل قتل فعلاً أم مسجون، أتمنى من (لجنة حلّ النزاع) مساعدتنا في معرفة مصيرهم، وتقديم المساعدة وأن يكونوا حلقة الوصل بين العوائل والسجناء”.
وشرحت هذه السيدة السورية أنّ هؤلاء المحتجزين من أبناء المنطقة يأملون تقديم حلول شافية لمعاناة الأهالي الذين لا يعلمون شيئاً عنهم “انتهت الحرب لكن مأساتنا لم تنتهِ فهذه الحالة أعيشها منذ 4 سنوات ولازلت أنتظر جواب”.
أما “عنود” استعادت ذاكرتها وأجهشت بالبكاء وكيف انتهى بها المطاف للعيش في منزل إيجار، محمّلة القدر مسؤولية ما حل بها، تغالب دموعها وهي تروي قصتها، لتقول:
“كنت طفلة بعمر 17 سنة عندما قرر والدي الالتحاق بالتنظيم وتزوجت بداية من مقاتلٍ قتل بعد أشهر، ثم تزوجت مقاتل ثان وبعد اختفائه أو مقتله، تزوجت من شخص يكبرني بـ30 سنة، حقيقةً عشت حياة قاسية وظروف مأساوية ورغم ذلك كنت أعيش في مخيم الهول براحة نظراً لأن المحيط متشابه يحملون نفس الأفكار” أما اليوم تعيش في ريف دير الزور الشرقي في مدينة هجين وعن محيطها الاجتماعي والجيران والأهل تقول: “مجتمع متعدد كلما عرفوا أني زوجة مقاتل في التنظيم وأن والدي كان في التنظيم يبتعدون عني”
تكابد هذه المرأة مرارة العيش وتأمين مستلزمات الحياة وتحاول رغم ذلك معرفة مصير والدها وتضيف: “قدمت الكثير من الطلبات لزيارة والدي ومعرفة مصيره أخشى أن يطول بنا هذه الحالة دون محاكمة أو تحديد مصيره”.
جهود اللجان وجمعيات أطلقت حملة مدنية
شرح محمد الشيخ المنحدر من ناحية الصور بريف دير الزور الشمالي وهو عضو في (لجان الصلح المجتمعي) أنّ اللجنة تأسست في شهر آذار 2022، من بين أعمالها تسهيل حياة العائدين من مخيم الهول وتذليل العقبات والصعوبات أمامهم، يقول:
“أعضاء اللجان وبالتنسيق مع جمعيات مدنية اهتمت بشدة بدمجهم مع المجتمع لتحقيق الأمن والسلم الأهلي الدائم، وبالفعل عالجت اللجنة عشرات الحالات وحققت إنجازات كبيرة بحلّ قضايا كانت معقدة كقضايا الثأر والانتقام، وسيطرة القوات الأمنية على منازل عوائل كانت في المخيم وتم إخراجهم منها وغيرها الكثير”.
بينما أكد القاضي محمد الدعيل وهو استشاري قانوني في (لجان حلّ النزاع) في حديث لموقع (نهر ميديا) أنّ الكثير من النساء والأطفال الذين خرجوا من مخيم الهول: “لا يمتلكون بطاقات شخصية إما لأنها أتلفت أو ضاعت أو لم تستخرج أصلاً بسبب النزوح المتكرر وعدم الإقامة الدائمة بمكان محدد، إلى جانب وجود الكثير من الأطفال الذين كان عمرهم شهر أو أيام وقت بداية الحرب، واليوم كبروا وبلغوا السن القانونية لتسجيل المواليد بعد مرور 10 سنوات من الحرب”.
وعن الأهالي الذين لم يتمكنوا من تسجيل أبنائهم في سجلات الأحوال المدنية، أكد القاضي: “ضرورة استخراج الوثائق الشخصية سواء عن الحكومة السورية أو الصادرة عن الإدارة المدنية في الرقة ودير الزور، حتى يتمكن صاحبها من التنقل بين مناطق الإدارة الذاتية إذا كان من سكان هذه المناطق، أما إذا كان من سكان غير هذه المناطق يحتاج إلى كفيل من نفس المنطقة أو بطاقة زيارة للدخول من شخص مقيم بتلك المنطقة وتكون الزيارة لغرض وزمن محدد”.
في وقت أطلقت منظمات وجمعيات محلية منذ تشرين الأول العام 2021 وعلى مدار عام كامل حملة “بين أهلكم” لمساعدة العائلات العائدة من مخيم الهول، وهذه المنظمات: (أمل أفضل للطبقة)، و (شباب أوكسجين)، و (إنصاف للتنمية)، و (فراتنا للتنمية)، العاملة في مدينة الرقة وريف دير الزور الشرقي عملت ونظمت العديد من الورشات والجلسات الحوارية، ويقول “بشار الكراف” المدير التنفيذي لمنظمة (شباب أوكسجين):
“الشريحة الكبرى من هؤلاء العائدين بحاجة كبيرة للمأوى والخدمات الأساسية والاقتصادية، والعمل على معالجة القضايا النفسية والصحية، وهذه المعوقات وغيرها تعيق الجهود الرامية لدمج هذه العائلات في مجتمعاتها بعد سنوات من الصراع والحروب والنزوح والعيش في مخيم الهول ذائع الصيت”.
وأوضح أنّ الورشات والأنشطة التي تنظمها هذه الجمعيات في إطار الحملة المستمرة تهدف إلى تسليط الضوء على أولوية احتياجات النساء والأطفال العائدين من مخيم الهول، “ناقشنا معهم سبل كيفية استقرار هذه العائلات، وتعزيز السلم الأهلي بين المجتمع وصولاً لحل كافة المشاكل التي تواجهها من خلال الحلول الفردية لكل مشكلة على حدة”، كما أسهمت هذه اللجان والمنظمات بحسب مدير منظمة (شباب أوكسجين) في تخفيف الصورة النمطية حول هذه العائلات العائدة لمسقط رأسها، “تحررت من تهمة تبعيتها لفصيل عسكري وتنظيم محدد، فهؤلاء واجهوا مشاكل التنمر من قبل المجتمع والشعور بالعزلة والرفض الغير مبرر، لكن كل العائلات مؤلفة من نساء وأطفال أبرياء لا ذنب لهم في هذه الحروب”، واختتم حديثه قائلاً: “هدفنا دمجهم بين أهلهم وتقبلهم من الجميع ومساعدتهم لطي الماضي ونسيان أهوال الحرب”.