نهر ميديا _ متابعات
الأفراد المنتمون إلى عائلات مقاتلي تنظيم الدولة الأجانب والسوريين والمحتجزون في مخيمات مؤقتة شمال شرق سوريا يجدون أنفسهم في مواجهة احتمالات غير مؤكّدة بالإفراج عنهم وترحيلهم وإعادة دمجهم في مجتمعاتهم.
تطرح عشرات آلاف العائلات السورية التي ينتمي إليها عناصر من التنظيم المسمّى الدولة الإسلامية تحدياً هائلاً في شمال شرق سوريا. فمنذ أكثر منعامَين ، تقوم قوات سوريا الديمقراطية – وهي مظلة عسكرية تضم أكراداً وعرباً وآشوريين بقيادة وحدات حماية الشعب الكردية – باحتجاز عائلات مقاتلين أجانب وسوريين منتمين إلى تنظيم الدولة الإسلامية في مخيمات مؤقتة شمال شرق البلاد، أكبرها المخيم الواقع بالقرب من بلدة الهول في محافظة الحسكة. ففي آذار/مارس 2019، احتجزت قوات سوريا الديمقراطية نحو 60000 شخص في مخيم الهول الذي توسع سريعاً، بعد خروجهم من آخر معاقل الدولة الإسلامية حول بلدة الباغوز في دير الزور. تحتجز قوات سوريا الديمقراطية حالياً نحو 12000 سجين يُشتبَه بانتمائهم إلى تنظيم الدولة الإسلامية، ومعظمهم مواطنون سوريون، فضلاً عن عشرات الآلاف من الأولاد والنساء اللواتي تجمعهن بهم صلة قرابة. وبعض النساء والأطفال المحتجزين في الهول كانوا عناصر في شرطة الحسبة التابعة لتنظيم الدولة أو قاتلوا مع التنظيم في إطار ما يُعرَف بـ”أشبال الخلافة”. أما النساء الباقيات فكنّ مجرد زوجات وأمهات وربات منازل. ولكن النساء في مخيم الهول لسن جميعهن مجموعة واحدة متشابهة، بل إنهن من خلفيات وانتماءات مختلفة، وعدد كبير منهن التحق بالتنظيم بسبب سوء الإدراك أو الظروف أو بفعل الإكراه.1
لقد أدّى التوغل العسكري التركي في شمال شرق سورية في تشرين الأول/أكتوبر 2019، فضلاً عن الانسحاب الجزئي للقوات الأميركية، إلى إضعاف قوات سوريا الديمقراطية وأثار تساؤلات بشأن قدرتها على الاستمرار في حراسة معتقلي الدولة الإسلامية وأفراد عائلاتهم. وفي الأشهر الأخيرة، عمدت قوات سوريا الديمقراطية إلى التسريع في الإفراج عن أفراد الأسر السورية – نتيجة الظروف المعيشية غير الملائمة والضغوط من أنسباء العائلات المحتجزة. وعند الإفراج عن هؤلاء النساء والأولاد، يُرسَلون إلى مجتمعات غير جاهزة، وفي معظم الأحيان غير راغبة في مساعدتهم بسبب انتمائهم – المتصوَّر أو الحقيقي – إلى تنظيم الدولة. وتتضاءل قدرة قوات سوريا الديمقراطية على التعامل مع إعادة دمج آلاف المعتقلين، ولكنها في الوقت نفسه لا تمكن المنظمات غير الحكومية من تأمين المساعدة الضرورية إلى المحتجزين المفرَج عنهم.
الظروف الأمنية في المخيمات
مع التقدم التركي، أعادت وحدات حماية الشعب نشر ثلث الفرقة التي كانت تؤمّن الحراسة في مخيم الهول ونقلتها إلى الجبهة قرب تل أبيض. فلم يبقَ سوى 150 عنصراً من قوات الأمن الداخلي (الأسايش) التابعة لوحدات حماية الشعب و200 مقاتل من وحدات حماية الشعب يتحمّلون مسؤولية ضبط الأمن عند محيط المخيم.2 وقد فرّت نحو 200 امرأة مرتبطة بتنظيم الدولة ، إلى جانب عشرات الأطفال، من مخيم الهول في الأسابيع التي أعقبت التوغل التركي، أملاً بالوصول إلى الحدود العراقية. وتمكّنت قوات سوريا الديمقراطية من القبض على نحو مئة منهم وإعادتهم إلى مركز الاعتقال.3
لا يزال الوضع في الهول غير مستقر. في بداية الهجوم التركي، أخرجت جميع المنظمات الدولية غير الحكومية تقريباً موظفيها الأجانب من شمال شرق سوريا. وفي غضون ذلك، سحبت منظمة أطباء بلا حدود جميع موظفيها من المخيم، فلم يبقَ سوى الهلال الأحمر الكردي للتعويض عن النقص في الرعاية الصحية.4 وقد استأنفت معظم المنظمات غير الحكومية عملياتها في المخيم، ولكن الرعاية الطبية وسائر الخدمات لا تزال محدودة فيقسم الأجانب الذي يقطن فيه المواطنين غير السوريين وغير العراقيين.5
وقد تسبب تراجع الخدمات في تفاقم عدم الاستقرار داخل المخيم. فقد أقدمت نساء وأطفال في المخيم على شنّ اعتداءات بوتيرة متزايدة ضد موظفي المنظمات غير الحكومية والحراس الذين يُنظَر إليهم بأنهم “مرتدّون كفرة”، في حين تعاني القوى الأمنية من الهشاشة بسبب خفض عديدها.6 وفي هذا الإطار، قالت إحدى الحارسات في قوات سوريا الديمقراطية: “نتعرض للهجوم من سكان المخيم الغاضبين أثناء توزيع الطعام”.7 وأحد الأسباب خلف موجة الحوادث الأمنية في الأشهر الأخيرة هو الخوف الذي يتملّك النساء المحتجزات من أن يتمكّن النظام السوري المعروف بسوء معاملته للمعتقلين لديه، من السيطرة على المنطقة، لأن من شأن ذلك أن يعرّضهن للتعذيب والاغتصاب في سجون النظام السيئة السمعة. وقد انحسرت هذه المخاوف إلى حد ما في الأسابيع الأخيرة، ما أدّى إلى تراجع الطلب على التهريب إلى خارج المخيم وانخفاض كلفته.8
وكان للتوغل التركي أيضاً تأثيره على مخيم عين عيسى الذي يقع شمال الرقة ويُعتبَر ثاني أكبر مخيم للنازحين داخلياً في شمال شرق سوريا، وهو يضم نحو 13000 نازح وشخص من عائلات على صلة بتنظيم الدولة ، بما في ذلك نحو ألف أجنبي. وفيما كانت الفصائل السورية المدعومة من تركيا تتقدّم نحو المخيم، لاذ المسؤولون عنه وحرّاسه بالفرار على وجه السرعة. وقد نُقِل العشرات من سكان المخيم إلى أماكن أخرى، لكن معظم العائلات تمكّنت من مغادرته.9 وقد ألقى المقاتلون السوريون المدعومون من تركيا القبض على مئات من عائلات تنظيم الدولة، وذكرت التقارير أنهم مواطنون أتراك استردّتهم بلادهم، ولكنهم وضعوا السوريين في مراكز اعتقال مؤقتة. وبعض هذه العائلات السورية محتجز الآن في مخيم عين البيضا على مقربة من جرابلس، حيث تزعم النساء المعتقلات أنهن محرومات من العناية الطبية، ومعرّضات للبرد والتحرش الجنسي.10 ويدّعين أيضاً أن الحرّاس التابعين لفصيل أحرار الشرقية المدعوم من تركيا يعرضون تهريبهن مقابل المال. ويُشار إلى أن نحو 176 عائلة عراقية تركت مخيم عين عيسى تُقيم حالياً في مخيمات أنشئت على عجل في منطقة تل أبيض وتخضع لسيطرة الفصائل التركية.11
الإفراج عن العائلات الأجنبية والسورية المرتبطة بالدولة الإسلامية وترحيلها
لقد تراجع أعداد المواطنين غير السوريين الذين يغادرون المخيمات بسبب رفض حكومات بلدانهم استردادهم. تتفاوض قوات سورية الديمقراطية، منذ عام 2017، مع الحكومات الأجنبية بشأن استرداد مواطنيها. لقد أعيد 1430 مواطناً أجنبياً، حتى تاريخه، إلى بلدانهم، وعدد كبير منهم عاد إلى بلدان وأقاليم ذات أكثرية مسلمة مثل كازاخستان والشيشان. إضافةً إلى ذلك، حال الهجوم التركي لفترة وجيزة دون عودة الأسر الغربية المنتمية إلى تنظيم الدولة، ولكن المحادثات استؤنفت بعد بضعة أسابيع بين قوات سوريا الديمقراطية والحكومات الغربية.12 ونتيجةً لذلك، أُعيد بحلول منتصف كانون الثاني/يناير 2020 إعادة ثلاثة أيتام بريطانيين وامرأة ألمانية مع أطفالها الثلاثة، وطفل أميركي، ويتيمَين فنلنديين، وعائلة نروجية، وأم وطفلَيها.13 ولا يزال المخيم يضم نحو 9600 شخص من غير العراقيين والسوريين.
أما في ما يتعلق بالعائلات القادمة من البلدان المجاورة والتي يُعتقَد أنها على صلة بتنظيم الدولة، فالأمور تسير ببطء أيضاً. وفي هذا الصدد، لم يُحرز الحوار بين الإدارة الذاتية والحكومة العراقية بشأن إسترداد نحو 31000 شخص من العراقيين المقيمين في المخيم أي تقدم تحقيقي. قال مسؤول في الإدارة الذاتية إن وفداً من العراق قام في مطلع 2019 “بزيارة المخيم وطلبنا من العراقيين أن تكون العودة طوعية… واتفقنا معهم على أن يستردوا نحو 5000 مواطن عراقي يرغبون في العودة، على أن يقوموا بإنشاء مخيم [في العراق] واستردادهم. أما مَن لا يرغبون في العودة فلن نرغمهم على ذلك”. ولكنه أردف: “لم يقوموا باستردادهم… توقفت العملية، ولا يزال [المواطنون العراقيون] موجودين في المخيم”. وفقاً لموظفين في منظمات إنسانية غير حكومية معنية باستقبال سكّان المخيمات العراقيين في العراق، تعثّرت المحادثات بسبب التغييرات على مستوى الطواقم في محافظة نينوى، ورغبة بغداد في إغلاق المخيمات، والأزمة السياسية والشلل اللذين يعاني منهما العراق مؤخراً. ويلقى استرداد العائلات معارضة واسعة في العراق، وتبدي الحكومة تردداً في اتخاذ مثل هذه الخطوة خوفاً من السخط الشعبي.15 يقول عدد كبير من العراقيين في الهول إنهم يخشون العودة إلى ديارهم حيث قد يتعرّضون للثأر.
ولكن العائلات السورية تواجه تحدياً خاصاً عند الإفراج عنها ونقلها إلى مجتمعات تُظهر تردداً في استقبالها. لقد أفرجت قوات سوريا الديمقراطية عن نحو 3000 شخص من الهول معظمهمينحدرون من بلدات خاضعة لسيطرة قوات سورية الديمقراطية.16 وبعد انعقاد اجتماع ضم شخصيات قبلية مرموقة ذات روابط وثيقة مع الإدارة الذاتية في أيار/مايو 2019، بدأت قوات سوريا الديمقراطية بالإفراج عن عائلات عناصر نتظيم الدولة المعتقلين أو المتوفّين وإخراجها من مخيم الهول من خلال منظومة من “الضمانات العشائرية” تتعهد الشخصيات القبلية بموجبها بأن يندمج الأشخاص الذين أُخلي سبيلهم – ومعظمهم من النساء والأطفال – في مجتمعاتهم المحلية من جديد وعلى نحوٍ سلمي. في الواقع، لا يعرف وجهاء القبائل، في معظم الأحيان، العائلات المعنيّة لأنها قد تكون من قبائل وبلدات مختلفة.17 يروي مدير منظمة محلية غير حكومية في دير الزور: “بعد الوصول إلى دير الزور، تنتقل نساء كثيرات للالتحاق بعائلاتهن في إدلب. هن لسن من دير الزور”، في إشارة إلى أن الضمانات القبلية لا تساوي الكثير.18
لقد مارست العشائر العربية ضغوطاً على قوات سوريا الديمقراطية للإفراج عن العائلات المحتجزة، لأن تلك العشائر تعتبر أن العائلات المعنية لم تتورط مع التنظيم بمحض إرادتها.19 يروي سكّان الرقة ودير الزور أن بعض العائلات رفضت تسليم بناتها إلى مقاتلي داعش، في حين أن عائلات أخرى سلّمتهن طوعاً، ولكن نادراً ما كانت النساء هن اللواتي اتخذن هذا القرار.20 وفي هذا الصدد، أورد موظف يعمل في منظمة إنسانية غير حكومية ويقيم في دير الزور أن العديد من مقاتلي التنظيم أرغموا شقيقاتهم على الزواج بقادة كبار في الدولة الإسلامية لتحسين موقعهم داخل التنظيم.21
ويؤدّي زعماء العشائر دور الوسطاء في عملية الإفراج عن المعتقلين، في محاولة منهم لتحسين مكانتهم لدى أنسباء المفرَج عنهم و واحياناً للحصول على مكافآت مالية. فمن أجل أن تتمكّن العائلات من مغادرة الهول، عليها أن تدفع المال لأحد شيوخ العشائر من أجل إدراج أسماء أفرادها في قائمة الأشخاص الذين حصلوا على “ضمانة” منه. 22 وتتلقى بعض الشخصيات العشائرية أيضاً تهديدات من عناصر في الدولة الإسلامية من أجل إدراج أسماء أقاربهم في قائمة الأشخاص الذين يستحقون إخلاء سبيلهم.23 تثير التهديدات المزعومة والرشاوى التي تُدفَع لممثّليالعشائر مخاوف من أن عمليات الإفراج عن المعتقلين تشمل فقط الأشخاص الذين يملكون روابط مع تنظيم الدولة، ولديهم قدرة أكبر على تسديد الأموال للحصول على إخلاء سبيل، وذلك على النقيض من النازحين المفقَرين.24
إعادة دمج العائلات السورية المرتبطة بتنظيم الدولة في مجتمعاتها المحلية
فيما ترفض دول غربية وعربية استرداد مواطنيها من الهول، تعمد قوات سوريا الديمقراطية إلى الإفراج عن أعداد كبيرة من العائلات السورية التي تملك صلات بتنظيم الدولة. وغالباً ما تصطدم هذه الأسر بمشاعر العداء والعزل. تدرك القيادة الكردية أن هناك، إلى جانب العقائديين، نساء نادمات أُرغمن صاغرات على الالتحاق بالتنظيم جرّاء الضغوط العائلية أو الظروف الشخصية أو دُفِعن إلى أحضان التنظيم بسبب الأوهام. ولكن جميعهم – المؤمنون والضحايا والنادمون والأطفال على حد سواء – بحاجة إلى الدعم الذي لا تستطيع قوات سوريا الديمقراطية تحمّله ويجب ألا تتحمله بمفردها.
يواجه أفراد عائلات مقاتلي التنظيم، بعد الإفراج عنهم من المخيمات، ردود فعل مختلفة من المجتمعات المحيطة بهم. فبعضهم ينبذهم جيرانهم وضحايا جرائم تنظيم الدولة. وفي هذا السياق، تقول امرأة عادت مؤخراً إلى الرقة بعد الإفراج عنها من مخيم الهول من خلال “ضمانة عشائرية” قدّمها شيخٌ لا يعرفها: “يريد بعض الأشخاص إلحاق الأذى بنا، واصفين إيانا بالدواعش. ويسعى آخرون إلى الثأر من الدولة الإسلامية. ويسيء بعضهم معاملتنا انطلاقاً من رغبتهم في التملق إلى قوات سوريا الديمقراطية”. لقد أمضت تسعة أشهر في المخيم مع شقيقتها ونسيبتها، وجميعهن تزوّجن من مقاتلين في التنظيم قضوا نحبهم. وقد لقي شقيقها مصرعه في القتال إلى جانب تنظيم الدولة، ولا تزال شقيقتها محتجزة في الهول.
واشتكت، خلال الأحاديث معها، من إرغامها على الكشف عن وجهها داخل المباني الحكومية، ومن النظرات التي تُرمَق بها مع آخريات في الشارع بسبب ارتدائهن النقاب. وتقول إن بعض الأشخاص ينبذونها هي وغيرها من العائلات اللواتي أُفرِج عنها من مخيم الهول ويطردونهم إلى الرقة “لأنهم يخافون من الأكراد [قوات سوريا الديمقراطية]. لا يريدون التورط في مشكلات بسببنا”. وهي تعتقد أن كثراً ممن ينبذونها هي وأمثالها هم من مؤيدي تنظيم الدولة، لكنهم يسيئون معاملتها ومعاملة الآخرين المفرَج عنهم لأنهم لا يريدون أن يُصنّفوا في خانة مؤيّدي التنظيم: “قلوبهم مع التنظيم، وهم يخافون من أن تنظر إليهم قوات سوريا الديمقراطية بعين الريبة”.25
وفي مناطق أخرى، لا سيما في المناطق العشائرية أو المحافِظة، لا تتحدث العائلات عن تعرّضها لتحديات كبرى، لكن بعضها يجري التعامل معه بارتياب. يروي ناشط مقيم في ناحية هجين في محافظة دير الزور: “لا شك في أنهم يواجهون أحكاماً مسبقة. لا يزال الناس يخافون من داعش، ومن الطبيعي أن يعمدوا إلى تهميش مَن يُنظَر إليهم بأنهم منضوون إلى جانب التنظيم”. ولكنه أردف أن النسيج الاجتماعي في المنطقة يسهّل على القبائل أو الأسر حماية النساء والأطفال الذين أُفرِج عنهم من مخيم الهول. يعوّل الأفراد بشدة على عائلتهم الموسّعة للحصول على الحماية ويدعمون محورية الروابط العائلية وصلة الدم.26
يعتقد النشطاء في المجتمعات التي تستقبل العائدين من الهول أن هؤلاء بحاجة إلى عناية خاصة بسبب تعرّضهم على مدار فترة طويلة للتلقين العقائدي على أيدي تنظيم الدولة. أحمد ناشطٌ كان يعمل في برامج إعادة التأهيل الخاصة بالنساء والأطفال المرتبطين بتنظيم الدولة في ريف الرقة بعد تحرير المنطقة في عام 2017 يعتبر أنه يمكن تغيير طريقة التفكير لديهم على نحوٍ تدريجي، خصوصاً من خلال وضع برامج لإعادة دمجهم في المجتمع والاقتصاد المحلي. ويقول في هذا الصدد: “في الهول، تُضخَّم الأصوات المتشددة، ولكن عندما تعود هؤلاء النساء إلى عائلاتهن، تتبدّد هذه الأصوات” وسط مجتمع أكثر اعتدالاً. أضاف أن المخيم “تسيطر عليه مدرسة فكرية واحدة، في حين أن الوضع مختلف هنا. ليست لأنسباء الأشخاص الذين أُفرِج عنهم من الهول المعتقدات نفسها”. 27
ولكن المجتمعات التي تستقبل العائلات تجد صعوبة في تقديم برامج إعادة التأهيل من خلال المؤسسات المجتمعية. يعلّق ناشط محلي من قرية الشحيل في دير الزور: “إسلامنا هو إسلام بسيط وشعبي. فمن أجل التصدّي لعقيدة داعش، نحتاج إلى بديل واضح متجذّر في الإسلام، وإلى واعظين قادرين على خوض نقاش مع الشبّان المتشددين ومقارعتهم”.28 يقول نشطاء من دير الزور والرقة إن الأئمة في المساجد المحلية غير قادرين على سوق حجج وجيهة لإقناع الشباب الذين جنحوا نحو التشدد. الحل الأمثل هو دمج هؤلاء الصغار في المدارس، إنما ثمة نقص حاد في قاعات التدريس في الرقة وأجزاء من دير الزور.29 منذ تحرير دير الزور من قبضة تنظيم الدولة ، لم يحاول الواعظون التطرق مباشرةً إلى العقيدة التي ينشرها تنظيم الدولة.30 ولمخاوف الأمنية دورها في هذا المجال، فالسكّان في دير الزور والرقة يقولون إن الأئمة لا يجرؤون على التنديد بعقيدة التنظيم.31
يشير موظفون في منظمات غير حكومية في المناطق الخاضعة لسيطرة قوات سوريا الديمقراطية إلى عدم تنفيذ هذه المنظمات برامج في الوقت الحالي لمساعدة العائلات المفرَج عنها على إعادة الاندماج، سواءً من خلال تأمين الدعم الاجتماعي أو الدعم للصحة العقلية أو الدمج في سوق العمل.32 تعتقد قوات سوريا الديمقراطية أن العشائر غير قادرة على رصد المحتجزين المفرَج عنهم، وتتعامل مع العائلات على أنها هاجس أمني تستطيع معالجته عن طريق مراقبتهم من خلال أشخاص تجنّدهم في المجتمع المحلي. وقد شرحت إحدى العاملات في مجال الإشراف على عمليات العديد من المنظمات غير الحكومية في شمال شرق سوريا أن قوات سوريا الديمقراطية تصرّ على أن تكون الفريق الوحيد المسؤول عن الإشراف على إفراج واندماج العائلات في المجتمع على الرغم من الطلبات المتكررة من المنظمات الإنسانية الساعية إلى المساعدة في هذه الجهود. وقالت في هذا الإطار: “لا مجال على الإطلاق للانخراط في هذه العملية. تريد قوات سوريا الديمقراطية الحفاظ على السيطرة، وتعتبر أنها إذا استعانت بطرفٍ آخر لافراج هذه العائلات، فقد يؤدّي ذلك إلى تقويض قبضتها الأمنية على المناطق التي تتحدر منها العائلات”.33
على ضوء تناقص إمكانات قوات سوريا الديمقراطية ومواردها، والقيود التي تفرضها على الدعم الإنساني الذي تقدّمه المنظمات غير الحكومية، وإصرارها على التعامل مع العائلات من خلال أجهزتها الاستخبارية، باتت المجتمعات المحلية تتحمّل عبء دمج النساء والأولاد الذين تعرّضوا لصدمة شديدة وخضعوا للتلقين العقائدي. جل ما يركّز عليه السوريون في مختلف أنحاء البلاد هو تأمين قدرتهم على البقاء والصمود فحسب بعد سنوات من الحرب وفي خضم الانهيار الاقتصادي. ويجب ألا تُترَك للمجتمعات المحلية التي تنتمي إليها هذه العائلات – التي عانى عدد كبير منها خلال حكم تنظيم الدولة – مهمة قيادة جهود إعادة دمج العائلات السورية التي أُطلِقت من الهول. فهذه المجتمعات تفتقر، في معظم الأحيان، إلى القدرة على معالجة التشدد لدى الشباب الذين التحقوا بتنظيم الدولة. وفي هذا الإطار، ينبغي على قوات سوريا الديمقراطية أن تعمل مع منظمات دولية مختصة على تسهيل إعادة الاندماج، وتوفير الخدمات النفسية والتربوية والمهنية لهذه العائلات التي كان بعض أفرادها عناصر ناشطين في تنظيم الدولة. وقد علّقت الموظفة في مجال المساعدات الإنسانية: “إذا لم نحرّك ساكناً الآن، سيظهر جيلٌ كامل من الأولاد الغاضبين. فماذا ستكون النتيجة عندئذٍ؟”34
ملاحظات
1.مقابلات أجرتها الكاتبتان مع أشخاص مقيمين في الهول ومع عناصر من أجهزة الاستخبارات التابعة لوحدات حماية الشعب، تموز/يوليو وتشرين الأول/أكتوبر 2019.
2. مقابلات أجرتها الكاتبتان مع مسؤول في وحدات حماية الشعب، مخيم الهول، تشرين الأول/أكتوبر 2019.
3. تضمنت هذه المجموعة نساء من الجنسيات الألمانية والتركية والأوزبكية. مقابلة مع مسؤول في وحدات حماية الشعب، مخيم الهول، تشرين الأول/أكتوبر 2019.
4.سحب الهلال الأحمر الكردي بعضاً من أفراد طاقمه في بداية الهجوم للاعتناء بالمصابين في تل أبيض ورأس العين، ما يقوّض بصورة مطردة قدرته على تلبية احتياجات سكان المخيم. مقابلة مع مسؤول عن إدارة المخيم، مخيم الهول، تشرين الأول/أكتوبر 2019. لا تزال بعض المنظمات الدولية غير الحكومية، منها منظمة “أنقذوا الأطفال” (Save the Children)، تؤمّن الخدمات في الهول. تشير هذه المنظمات إلى أن عملياتها لم تتأثر إلى حد كبير بالتوغل التركي، لأنها تعتمد على موظفين محليين. مقابلة مع موظفة من منظمة “أنقذوا الأطفال” عبر الواتساب، كانون الأول/ديسمبر 2019.
5. مقابلة أجرتها الكاتبتان عبر البريد الإلكتروني مع ممثل عن منظمة غير حكومية تؤمّن خدمات الحماية في الهول، كانون الأول/ديسمبر 2019.
6. مقابلات أجرتها الكاتبتان مع مسؤولين أمنيين، مخيم الهول، تشرين الأول/أكتوبر 2019؛ ومقابلة عبر البريد الإلكتروني مع ممثل عن منظمة غير حكومية تعمل في الهول، كانون الأول/ديسمبر 2019.
7. مقابلات أجرتها الكاتبتان مع مسؤولة عن الأمن الداخلي في المخيم، مخيم الهول، تشرين الأول/أكتوبر 2019.
8. محادثات أجرتها الكاتبتان عبر الواتساب مع امرأة مقيمة في أحد المخيمات السورية، تشرين الأول/أكتوبر-تشرين الثاني/نوفمبر 2019.
9. مقابلات أجرتها الكاتبتان مع مسؤولين محليين أتراك، أورفة، تشرين الأول/أكتوبر 2019؛ مقابلة عبر الواتساب مع عضو في فصيل مدعوم من تركيا، تشرين الأول/أكتوبر 2019.
10. رسالة موجَّهة من 16 امرأة سورية هربن من سجون عين عيسى وكوباني، واحتُجِزن لاحقاً في عين البيضا، ونُشِرت عبر قناة اتصال مغلقة يستخدمها سكان مخيم الهول، 29 تشرين الثاني/نوفمبر 2019.
المصدر ” كارنغي”