نهرميديا – تحقيق
المقدمة:
منذ ثمانينات القرن الماضي، إبّان الثورة الإيرانية (ثورة الخميني)، كانت سوريا على قائمة الأهداف الإيرانية الموضوعة ضمن مشروع إيران الجديدة، لما لسوريا من مميزات على صعيد الموقع الجغرافي الاستراتيجي، والبُعد التاريخي والسياسي الذي تتمع به دمشق في الشرق الأوسط.
لم يكن أمام إيران في تنفيذ مخططها في سوريا إي عوائق تُذكر، فمع وجود نظام الأسد الأب “حافظ الأسد” آنذاك، كانت خُطى إيران أكثر ثباتا في سوريا.
هدفت إيران في بداية دخولها إلى سوريا إلى وضع قدم لها في سوريا على المدى البعيد، فبدأت بزرع بذور التشيّع في مختلف المناطق السورية، بدءاً من العاصمة دمشق، وعاصمة سوريا الاقتصادية حلب، ومختلف المناطق السورية، ولم تغب المنطقة الشرقية من سوريا عن مخطط طهران، فكانت دير الزور خيار إيران الأول لجعلها الأرض التي تستقبل بذار التشيّع شرق البلاد.
عن طريق عدد من الشخصيات التي باتت معروفة في دير الزور، تمكنت إيران زرع حجر أساس لها في المحافظة الفراتية السورية ذات الموقع الجغرافي المتميز، لكونها تشترك بحدود برية مع العراق.
على طول عشرات السنين، وبمباركة وتسهيل من نظام الأسد، غذّت إيران خلاياها في دير الزور، وجعلت منهم نواة لمشروع قادم ظلّ تحت الظل سنوات كثيرة، لتظهر ثماره مع بروز فجر الثورة السورية، وخروج دفة النظام العلوي عن المسار المرسوم له على يد الاحتجاجات السلمية والحراك العسكري لاحقاً.
مع آواخر عام 2017، دخلت إيران عبر مليشياتها العابرة للقارات بشكل رسمي إلى دير الزور، مستندة على أحجار الأساس التي كانت قد زرعتها منذ أعوام في دير الزور، فكانت لدير الزور أهمية كبيرة لدى طهران، لدرجة أنها زاحمت نظام الأسد والقوات الروسية على التفرد بالسيطرة على بعض المدن والقرى الديرية، وأهمها، مدينة البوكمال شرق دير الزور، والتي جعلت منها مليشيا “الحرس الثوري الإيراني” عاصمة إيران في المنطقة الشرقية من سوريا.
ومع مرور أيام التواجد العسكري الإيراني على أرض دير الزور، والذي انبثق عنه لاحقاً حضوراً دينياً وثقافياً، بدأت ملامح المشروع الإيراني تتكشف شيئاً فشيئاً، فكانت هناك ظواهر وحالات نقلتها المليشيات إلى المجتمع الديري، لابد من الوقوف عندها ووضعها تحت مجهر الحقيقة، ليتم تقييم ما وصلت عليه إيران في دير الزور بشكلٍ فعليّ، ودحض كل ما هو دون ذلك.
محاولة التغيير الديمغرافي (التهجير والاستيطان):
دخلت المليشيات الإيرانية إلى جانب قوات النظام والروس إلى الضفة الجنوبية من محافظة دير الزور، في الربع الأخير من عام 2017، بعد أن طبقوا سياسة الأرض المحروقة على جميع القرى والبلدات في ريفي المحافظة الغربي والشرقي، والأحياء المحررة من مركز مدينة دير الزور، ما نتج عن هذه السياسة موجة تهجير لأهالي دير الزور في المناطق المذكورة هرباً من الموت المحتم بآلة القتل الثلاثية (الأسدية-الإيرانية-الروسية)، فدخلت القوّات والمليشيات قرى وبلدات ومدن فارغة من السكان، ليبدأوا بوضع قواعد اللعبة الجديد المتمثلة بحكّم جماعي للمنطقة من الأطراف الثلاثة.
اختارت إيران مراكز المدن الكبيرة في ريف دير الزور الشرقي كالميادين والبوكمال، لتكون ساحة لانتشار مليشياتها، ومعه بدأ التغيير يظهر على تلك المناطق.
في الفترة الأولى من تواجد المليشيات الإيرانية في دير الزور، كان هناك تواجد كبير لعوائل قادة وعناصر المليشيات من جنسيات إيرانية وأفغانية، تم نقلهم إلى عدة مناطق من ريف دير الزور الشرقي، وأهمها مدينة الميادين.
يقول “أبو محمد” من أهالي مدينة الميادين الذين لم يخرجوا من مدينتهم مع حملة النظام والروس والإيرانيين:
“في الأشهر الأولى لدخول المليشيات الإيرانية الميادين، بدأنا نلاحظ توافد عدد كبير من عائلات القادة والعناصر إلى الميادين، حيث تم إسكانهم في حي (التمو) الذي أصبح لاحقاً من أكبر الأماكن التي تتجمع عوائل المليشيات في مدينة الميادين”.
بعد هدوء العمليات العسكرية في المنطقة، رجعت أعداد من العوائل إلى مناطقها التي باتت تحت سيطرة قوات النظام والمليشيات الإيرانية والروسية، ليتفاجئ عدد من الأهالي بأنّ منازلهم تحولت لمقرّات عسكرية أو ثكنات ومستودعات أسلحة، ما دفع بهذه العوائل للهجرة إما الداخلية إلى مدينة دير الزور ودمشق وشمال سوريا، أو خارجية إلى تركيا وأوربا.
يقول “أحمد” وهو من أهالي مدينة العشارة بريف دير الزور الشرقي:
“بعد دخول الإيرانيين إلى مدينة العشارة، نزحنا إلى بلدة سويدان جزيرة على الضفة الثانية من نهر الفرات، وبعد أن استقرت الأمور هناك نوعاً ما، حاولنا الرجوع إلى منزلنا، لكن مليشيا حزب الله كانت قد استولت عليه وحولته إلى مقرّ لها، بحجّة أننا مطلوبين للنظام، ما أجبرنا إلى قصد تركيا بعد أن تقطعت بنا السبل”.
وفي مدينة دير الزور، وفي حيّ فيلات الضاحية تحديداً، وضعت المليشيات الإيرانية يدها على الحي الذي فرغ من ساكنيه، وتم إسكان أكثر من 50 عائلة من عوائل العناصر وقادة المليشيات الإيرانية.
الجدير ذكره، أنّ مكوث العدد الأكبر من عوائل العناصر والقادة الإيرانيون في دير الزور لم يدم طويلاً، لعدة أسباب، أهمها الوضع الأمني المتردي، والمتمثل بهجمات تنظيم داعش، والقصف الاعتيادي من طيران التحالف الدولي والطيران الإسرائيلي، فتم إرجاع غالبية العوائل إلى بلدانهم، واقتصر التواجد على بعض العوائل الموكلة إليها أعمال كالطبخ للمليشيات، فتحول وجودهم المؤقت إلى زيارات دورية تحت مسمى “الحُجّاج”.
استملاك الأراضي:
بعد أن ثبتت المليشيات الإيرانية أقدامها في دير الزور، وصارت الحاكم الفعلي لبعض المناطق كما هو الحال في البوكمال، اتجهت طهران في تطبيق سياسة الاستملاك في دير الزور، فوضعت آليات لتنفيذ هدفها، كاستخدام أشخاص محليين (سماسرة) لشراء الأراضي والعقارات لصالح إيران.
ففي البوكمال، كان عرّاب عملية استملاك الأراضي لصالح إيران، المسؤول العسكري والأمني في مليشيا “الحرس الثوري الإيراني” المدعو “الحاج عسكر”.
أطلق “الحاج عسكر” أذرعه في البوكمال، لشراء الأراضي والعقارات لصالح إيران، فكان له ما أراد، وتمكّن بفترة قصيرة من شراء عدد من الأراضي منها ( أراضٍ اشتراها من عائلة من عشيرة الحسون بمنطقة الحميضة الحدودية بمبلغ ب 200 مليون ليرة سورية منذ مايقارب 8 أشهر، منزل بقيمة 35 مليون ليرة سورية بالقرب من الحدود السورية العراقية، معمل ثلج “الفاروق” من صاحبه “سعود النجم” في قرية السويعية بريف البوكمال ومنازل أخرى في أحياء مدينة البوكمال تم شرائها عن طريق عدد من أصحاب المكاتب العقارية لصالح “الحاج عسكر”.
لم تكتف إيران بشراء العقارات والأراضي، بل تسلّط بعض قادتها على ممتلكات المهجّرين من أبناء دير الزور، كما حصل في مدينة موحسن بريف دير الزور الشرقي، حيث استولى أحد قادة المليشيات الإيرانية على أرضٍ زراعية تبلغ مساحتها 250 هكتار، وزرعها بمحصول القمح.
كما صادرت المليشيات الإيرانية منازل معارضين للنظام السوري في مدينة الميادين بالقرب من شارع الأربعين على أطراف حي المحاريم، وفي حارة السرايا، في مجمع البرج وبالقرب من مسجد الخضر.
تغيير الهوية الثقافية (المراكز الثقافية والمشاريع التنموية):
لم يقتصر التواجد الإيراني في دير الزور على وجه الخصوص وسوريا عامةً على الجانب العسكري، كغيره من القوى التي دخلت إلى سوريا بعد عام 2011، بل بدأ التواجد الإيراني يأخذ شكل الاستيطان غير المباشر، عبر الأدوات الإيرانية والأنشطة التي بدأت بإدخالها إلى المجتمعات السورية.
فيما يبدو، كانت طهران قد أعدّت دراسة مسبقة للمجتمعات المستهدفة في سوريا، حيث أنّ الخطوات التي اتخذتها في تطبيق مشروعها أظهرت مدى علم إيران بالمجتمع المضيف.
في دير الزور، بدأ التواجد الإيراني يأخذ أشكالاً أخرى بعيدة عن الجانب العسكري والمليشيات المنتشرة في كافة المناطق الديرية، حيث ظهر الاهتمام الإيراني بالجانب المدني والثقافي في مجتمع دير الزور، من خلال افتتاح المراكز الثقافية الإيرانية (مراكز الأصدقاء)، والتي لعبت لاحقاً دوراً هاماً بنشر الصبغة الإيرانية “الشيعية” في المحافظة.
بدأت نشاطات المراكز الثقافية الإيرانية بالظهور في دير الزور، مع بدايات عام 2019، حيث أطلقت المليشيات دورات ترفيهية ثقافية تستهدف الأطفال واليافعين، في مدينة دير الزور، في مركز يتبع للمركز الثقافي الإيراني أطلقت عليه اسم مركز (كشّاف).
عن طريق تلك المراكز، عملت إيران على بث أفكارها بطريقة غير مباشرة، فسرعان ما أصبح المسرح المتنقل التابع للمركز الثقافي الإيراني، حاظراً في كافة المناسبات الوطنية والدينية، حيث يقدّم المسرح لوحات فنية ومسرحيات تنقل المعتقدات الشيعية الإيرانية بمسحة دينية بحتة، بالإضافة للملامح الشيعية في الاحتفالات كمواكب العزاء واللطميات التي صارت ظاهرة متكررة في كل احتفال للإيرانيين.
تعددت المراكز الإيرانية لاحقاً في دير الزور، مع اختلاف التسميات، ففي الميادين، مثلاً، نشط ما سميّ بمركز النور الساطع، بنشاطات تشابه إلى حدّ كبير نشاطات مركز كشّاف، وفي البوكمال كان هناك مركز الأخوة الأصدقاء وبذات الأفكار والنشاطات للمركزين السابقين.
لم تقتصر نشاطات المراكز الثقافية الإيرانية على الجانب “الدعوي” فقط، بل تعدت إلى تفعيل الجانب الخدمي، حيث خصصت المراكز الثقافية الإيرانية مكتباً أطلقت عليه اسم “المكتب الخدمي” بمهمة تنفيذ مشاريع خدمية في المحافظة تحت رعاية إيران، فكان ذلك في مشروع إعادة تأهيل الحديقة العامة في دير الزور، وإعادة تأهيل حديقة “كراميش” في منطقة حويجة صقر في المدينة، والتي تم تغيير اسمها إلى “ملهى الأصدقاء” وتحويلها جزء منها إلى مقرّ لمليشيا “الحرس الثوري الإيراني”، بالإضافة إلى تأهيل وترميم عدد من المساجد والطرقات العامة والمدارس في المدن الكبرى من محافظة دير الزور.
ومع تنامي العوز المادي في دير الزور، نتيجة الوضع الاقتصادي المتهاوي، لعبت إيران على وتر الحاجة المادية للأهالي، في جذب شباب المحافظة إلى صفوف مليشياتها، وذلك عن طريق إغرائهم بالرواتب الشهرية، والامتيازات الأخرى كونهم منظمين في صفوف مليشيات لها كلمتها على الأرض، في ظل وضع الانفلات الأمني الذي بات سمة واضحة في دير الزور.
وفي الجانب الطبي في دير الزور، كان لإيران بصمات واضحة، تمثّلت بالاستيلاء على المشافي الخاصة التي كانت موجودة سابقاً، والعمل على إعادة تأهيلها، وتفعيل عملها لاستقبال المدنيين وتقديم الخدمات الطبية مقابل أجور رمزية، وللعسكريين بشكلٍ مجاني، كنوع من أنواع الجذب وكسب ودّ أهالي دير الزور، ومن المستشفيات التي استولت عليها إيران مستشفى “الهناء” في البوكمال، والتي حولت اسمها لمستشفى “الشفاء”، ومستشفى آخر افتتحته المليشيات الإيرانية في مدينة العشارة شرق دير الزور، حمل نفس الاسم “الشفاء”، ومستشفى “الفرات” في مدينة دير الزور.
لم توفر إيران وعن طريق مليشياتها ومراكزها، أيّ جهدٍ، لتثبيت أقدامها في دير الزور، وكسب الحاضنة الشعبية المهمة لكل محتل، فعملت مؤخراً على تفعيل الجانب الرياضي-تحت إشرافها-فأقامت في البوكمال دوريات كروية للفرق الشعبية في بلدة السويعية بريف البوكمال، ودورة كروية أخرى بمشاركة لفرق من المليشيات في المدينة، في محاولة لدمج عناصر مليشياتها الأجانب مع المجتمع المحلي، لما لكرة القدم من انتشار وشعبية في مجتمع دير الزور، وذات الأمر بدأت به في مدينة دير الزور، وذلك عن طريق تجهيز ملعب خاص بالمركز الثقافي الإيراني، والعمل على إقامة دوريات كروية لمختلف الأعمار وبمشاركة فرق ولاعبين أجانب.
عملت إيران على تغيير بعض معالم مدينة البوكمال، عن طريق تغيير بعض أسماء الأماكن العامة المعروفة في المدينة، بأسماء من وحي الثقافة العسكرية لمليشياتها، فحولت اسم دوّار “الهجانة” في المدينة لـ”المقاومة”، واستبدلت اسم دوّار “السكرية” باسم دوّار “القدس”؛ وأطلقت اسم “الشهداء” على دوّار الانطلاق.
خلاصة
رغم جميع النشاطات والوسائل الإيرانية المتبّعة في دير الزور، إلا أنها لم تنجح حتى الآن، في إحداث تغيير جذري في مجتمع دير الزور، وذلك بناءاً على عدة أسباب أهمها، الوجود الروسي الذي ينافس إيران في السيطرة على دير الزور، ويحد من تفردها في تطبيق أهدافها، مراقبة المجتمع الدولي لإيران، طبيعة مجتمع دير الزور ذي النسيج الصافي، حيث يمتاز مجتمع دير الزور بوحدة المذهب الديني (السُني) والذي شكّل عائقاً كبيراً أمام مشروع إيران في المنطقة، على الرغم من اختراق إيران لهذا المجتمع منذ عشرات السنين عن طريق أشخاص كانوا نواة للتشيّع، إلا أنّ تأثيرهم كان محدوداً ولم يشكلوا فارقاً في المجتمع الديري.
إذا بإمكاننا القول أنّ إيران فشلت إلى حد الآن، بالسيطرة على مجتمع دير الزور، حيث تلاشى مشروعها الأول المتمثل ب”التغيير الديمغرافي” بسبب الوضع الأمني غير المستقر، وغياب البيئة الآمنة للعوائل الأجنبية التي تم نقلها في الفترات الأولى من احتلال دير الزور إلى المحافظة، وتمّت إعادتها لاحقاً إلى بلدانها.
تراهن إيران الآن، على مشروع آخر، وهو تغيير الهوية الثقافية لمجتع دير الزور، رغم التحديات التي تقف أمامها، إلاّ أنه قد يبدو أسهل في التطبيق من مشروع التغيير الديموغرافي، لذلك، من الممكن أن نلاحظ في قادم الأيام، أدوات جديدة ووسائل أخرى، في يد إيران لتنفيذ مشروع تغيير الهوية الثقافية لمجتمع دير الزور.