آخر الأخبار

الهلال الأحمر: من ذراع أمنيّ ومسرح للفساد إلى فرصة للترميم

نهر ميديا-دير الزور

حين تُذكر منظمات الإغاثة، يتبادر إلى الذهن الحياد، والإنسانية، والعمل في الهامش بين الحياة والموت. لكن في سوريا، حيث تشوهت المفاهيم، لم تسلم حتى المنظمات “الحيادية” من التحوّل إلى أدوات بيد السلطة.

الهلال الأحمر السوري، الذي تأسس ليكون طوق نجاة للمحتاجين، وجد نفسه-طوعًا أو قسرًا-جزءً من منظومة النظام، يُستخدم كواجهة شرعية لتلميع صورة السلطة، وكقناة تحكم بتوزيع المساعدات وفق الولاء لا الحاجة.

اليوم، وبعد تغيّرات سياسية وميدانية عميقة، تقف المؤسسة أمام مفترق طرق. المتطوعون الجدد الذين انخرطوا في العمل الإنساني إيمانًا بالتغيير يجدون أنفسهم في مواجهة تركة مثقلة، مؤسسة عديمة النزاهة، وثقة مجتمعية مفقودة، وتاريخ من التسييس لا يمكن تجاوزه بسهولة.

في هذا المقال، نستعرض تلك المرحلة المظلمة من تاريخ الهلال الأحمر في مدينة دير الزور تحديدا، ونفتح باب الأسئلة: هل يمكن إصلاح ما أُفسد؟ وهل يستطيع الهلال الجديد أن ينقذ ما تبقى من إنسانيته؟

الهلال الأحمر في دير الزور: حين تحوّل العمل الإنساني إلى غطاء أمني ومسرح للفساد

في الفترة الممتدة بين 2011 و2014، تحوّل فرع الهلال الأحمر في دير الزور إلى واحد من أبرز أدوات النظام الأمنية في المنطقة، إذ لم يكن مجرد جهة إغاثية أو إنسانية، بل واجهة يعمل خلفها ضباط الأمن وأذرعهم النافذة. كانت كل استجابة إنسانية أو توزيع للمساعدات تمر عبر الفروع الأمنية، من أسماء المستفيدين إلى نوع المواد وطريقة التوزيع. وغالبًا ما كانت هذه البيانات تُستخدم من قبل الأمن كأرشيف استخباري، يُبنى عليه استدعاءات واعتقالات وتحقيقات.

لم تكتف تلك القيادات بتسريب المعلومات، بل تجاوزت ذلك إلى التعاون المباشر مع الأجهزة الأمنية في تسليم عدد من المتطوعين، بعضهم أُفرج عنه بعد أيام، وآخرون قضوا شهورًا وسنوات في الاعتقال، في حين أن عددًا منهم لا يزال مصيره مجهولًا حتى اليوم، دون أي أثر أو خبر.

الفساد المالي والإداري كان متجذرًا داخل الفرع، حيث كانت صفقات التوريد تُمنح للموردين لا بناءً على تنافسية الأسعار أو الجودة، بل على مقدار ما يمكن تقديمه من رشاوى أو وساطات. هذا النهج رسّخ ثقافة التربح الشخصي من العمل الإنساني، كما أن القيادات كانت تحظى بـ”ضوء أخضر” من الأجهزة الأمنية يوفّر لها الحماية مقابل استمرار التعاون، وهو ما ساعد عددًا من المتورطين في قضايا اختلاس كبيرة على الهرب بين عامي 2014 و2015، بعد تسريب معلومات عن استدعائهم للتحقيق من قبل الإدارة المركزية. بعضهم تمكن من تهريب أموال وممتلكات إلى خارج البلاد، دون أن تطاله أي مساءلة.
ومع انسحاب النظام من مدينة دير الزور، سارعت الإدارة السابقة وبعض المتطوعين المقرّبين منها إلى إتلاف كميات ضخمة من الوثائق التي تضم بيانات المستفيدين والسجلات المالية والإدارية، بهدف طمس أي دليل على التجاوزات التي ارتُكبت. كما تم نهب أصولا كبيرة تعود للهلال، من سيارات ومكاتب وأجهزة كومبيوتر
ومعدات، وتم لاحقًا تبرير اختفائها بحجة “الفوضى” و”اقتحام مقرات الهلال من قبل عناصر قسد”، في حين أن الجزء الأكبر منها كان قد أُخفي أو سُرق بشكل ممنهج قبل ذلك.

إلى جانب الفساد والتنسيق الأمني، برزت انتهاكات خطيرة أخرى ارتكبها بعض المتطوعون والموظفون على اختلاف مستوياتهم، تمثلت في التحرش الجنسي ببعض المستفيدات واستغلال حاجتهن للمساعدة. هذه الوقائع لم يتم التحقيق فيها يومًا، بل جرى التستر عليها، في مناخ عام يغيب فيه القانون وتُكافأ فيه الولاءات الأمنية على حساب الأخلاق المهنية.
كل هذه الممارسات شكّلت إرثًا ثقيلًا تحمله اليوم محاولات إعادة إحياء الهلال الأحمر كجهة إنسانية مستقلة، وتُظهر كيف تحوّل العمل الإنساني، في ظل منظومة الاستبداد، إلى أداة للبطش والإثراء، بدلًا من أن يكون مظلة حماية للضعفاء والمحتاجين.

شهادات من الداخل: روايات صادمة عن الفساد والانتهاكات في الهلال الأحمر السوري

شهادة متطوع سابق (شادي):
“كنت متطوعًا في الهلال الأحمر بين 2012 و2014. خلال فترة عملي، شاهدت بأم عيني كيف كان بعض المتنفذين وهم (س.ط) و (س.م) و(ع.د) ينسقون مع الأفرع الأمنية، بل ويتم استدعاؤنا أحيانًا لإعداد لوائح بالمستفيدين ثم تُرسل للأمن العسكري. في إحدى المرات، تم استدعاء زميل لنا بعد زيارته لحي الحميدية، ولم نره منذ ذلك اليوم.”
شهادة مستفيدة (أم خالد):
“قدمت طلبًا للحصول على سلة غذائية أكثر من مرة، لكنني كنت أُستبعد دائمًا. لاحقًا علمت أن مسؤول الهلال المدعو (م.م) في الحي قال إنني أخت ناشط معارض. وكأن المساعدات كانت تُوزع وفق الولاء، لا الحاجة.”
شهادة من تاجر محلي (أبوزهير):
“طلب مني أحد موظفي الهلال المدعو (أ.د) حصة تبلغ 35 % مقابل الفوز بعقد لتوريد مواد طبية. رفضت، فأعطوا العقد لتاجر آخر معروف بأنه مقرب من الأمن، رغم أن أسعاره أعلى. بعد فترة، تم تهديدي بأني سأُمنع من العمل إذا فتحت فمي.”
شهادة من قريبة أحد المعتقلين (نسمة):
“قريبي كان متطوعًا، بعد توزيع مساعدات في الريف الشرقي، عاد لينتقد ما يجري وهو وأصدقائه فقام المدعوين (أ.د) و ( ع.ع) بتهديدهما إذا لم يغضا النظر بأنهما سوف يأذونهما، بعد أيام اعتُقل من داخل مستودع الهلال، قالوا إنه على علاقة بمجموعات إرهابية. لم نعرف عنه شيئًا منذ أكثر من 10 سنوات. سألنا في كل مكان.. لا جواب.”
شهادة موظف إداري سابق (رائد):”عندما بدأت الأخبار عن انسحاب النظام من بعض النقاط، قام المدعو (أ.د) و (ع.ع) ومجموعة من المتطوعين المقرّبينهم (س. ن) ( م .د) و (ط.د) بتحميل سيارات بأجهزة لابتوب، وأرشيف ورقي، وحتى طابعات. أحدهم قال لي: “خليها علينا، إذا رجعوا بيسألونا، نقول نهبها عناصر قسد.”
شهادة (هديل/26 سنة):
“كنت أراجع مركز الهلال الأحمر للحصول على مساعدات صحية لوالدتي المريضة. أحد الموظفين (ش .ب)، وهو في موقع مسؤول، بدأ بملاحظات غريبة، ثم دعاني إلى مكتبه خارج أوقات الدوام، وقال لي صراحة: “بإيدك تضمني كل شي، بس بدنا نرتاح شوي” شعرت بالإهانة والخوف، وتركت المركز ولم أعد أطلب أي مساعدة بعد ذلك.”
شهادة (سهام/ 33 سنة):
“كنت متطوعة في أحد فرق الهلال، وكان المسؤول المباشر(أ.ر) يتعمد لمس كتفي أو ظهري بحجة المساعدة أو التوجيه، في إحدى الورشات، حاول أن يغلق الباب علينا وطلب أن نبقى نكمل النقاش وحدنا، حين رفضت، بدأ يضغط علي في المهام اليومية ويقلل من عملي حتى انسحبت من الفريق نهائيًا.”

جهود التغيير ومساعي الاستعادة (مواجهة تركة الماضي الثقيل)

في 11 أيار، صدر قرار رسمي بتشكيل مجلس إدارة مؤقت للهلال الأحمر العربي السوري، في خطوة اعتُبرت محورية لفصل المرحلة الحالية عن إرث ثقيل من الفساد والتواطؤ والانتهاكات. جاء هذا القرار في وقت حساس تحاول فيه المؤسسة إعادة بناء الثقة مع المجتمعات المحلية والمانحين
خلال المرحلة القادمة، سيتم العمل على تفعيل آليات الشكاوى والمساءلة بشكل فعّال، لضمان أن أصوات المستفيدين والمتطوعين تُسمع وتُؤخذ بجدية. كما سيتم تعزيز المشاركة المجتمعية في تصميم الاستجابات، لتنبع من تقييمات احتياج حقيقية تعكس الواقع وتستجيب له بفعالية.
إضافة إلى ذلك، يتجه المجلس إلى أتمتة العمليات الإدارية والمالية، مما يقلل الاعتماد على الورقيات ويحد من فرص التلاعب. وسيتم التعاقد مع جهات رقابة مستقلة (طرف ثالث) لمراقبة تنفيذ المشاريع وإجراء تدقيق مالي دوري، بهدف الوصول إلى بيئة عمل قائمة على الشفافية والمحاسبة، تعكس التزاماً حقيقياً بالتغيير الجذري وتحقيق العدالة للمجتمع.

ترافق هذه الجهود صمتٌ حذر من بعض المتورطين السابقين الذين لا يزالون يحاولون الالتفاف على مسار التغيير. لكن الرهان الآن على قدرة الإدارة المؤقتة على تحويل هذه الخطوة إلى بداية فعلية لاستعادة ما فُقد من سمعة ومصداقية.

في الختام، لا يمكن طيّ صفحة الماضي دون مواجهته بشجاعة. إن تشكيل مجلس إدارة جديد للهلال الأحمر السوري يمثل فرصة نادرة لإعادة ترميم الثقة وترسيخ قيم الشفافية والعدالة. التحديات كثيرة، والتركة ثقيلة، لكن وجود شخصيات نزيهة ومشهود لها بالكفاءة يفتح باب الأمل لتأسيس مرحلة جديدة، تُعيد للمؤسسة إنسانيتها المفقودة، وتمنح المجتمع السوري والديري تحديدا نموذجاً يمكن أن يثق به من جديد.

بإمكانك البحث أيضاً عن،

قسد تشن حملة اعتقالات في الرقة وريفها تستهدف ناشطين وثواراً سابقين

نهر ميديا-الرقة نفذت القوى الأمنية التابعة لقسد، مساء أمس، حملة مداهمات واسعة، شملت عددا من …