نهر ميديا-سوريا
في مجتمعات أنهكتها الحروب، الاستبداد، والانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان، يبرز مفهوم العدالة الانتقالية كإطار يسعى إلى تضميد الجراح وبناء مستقبل قائم على الإنصاف والمساءلة.
إلا أن البعض ما زال ينظر إلى العدالة الانتقالية بوصفها مطلباً نخبوياً أو ترفاً مجتمعياً يمكن تأجيله أو تجاهله لصالح الاستقرار أو النمو.
في الواقع، العدالة الانتقالية ليست ترفاً، بل حق إنساني أصيل ينبع من كرامة الإنسان وحقه في الحقيقة، والمساءلة، والإنصاف.
العدالة الانتقالية هي مجموعة من الآليات القضائية وغير القضائية التي تستخدمها المجتمعات الخارجة من فترات القمع أو النزاع بهدف معالجة إرث الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان. وتشمل أربعة أركان رئيسية هي الحقيقة وتعني كشف ما حدث ومن المسؤول، المساءلة وتعني محاسبة الجناة بشكل عادل، جبر الضرر ويعني تعويض الضحايا مادياً ومعنوياً وأخيرا ضمانات عدم التكرار إصلاح المؤسسات لمنع تكرار الانتهاكات.
إنّ تطبيق العدالة الانتقالية عبر تشكيل هيئة مختصة تحقق بالقضايا التي لاتزال معلقة، وتحاسب المجرمين وتنصف الضحايا وفق آليات القانون، إنما هي دعامة للمجتمع وآلية دفاع عن القانون، وضمان سيادته على المجتمع، والثابت أنه كلما تأخر تطبيق العدالة الانتقالية في مجتمع خارج من حقبة إجرام كحقبة نظام الأسد، فإن العدالة الانتقامية قادمة لامحالة، فالاستقرار الحقيقي لا يتحقق دون عدالة، وبناء السلام الدائم يتطلب معالجة جذور العنف وليس فقط إيقافه مؤقتاً والسكوت عن الماضي يُورّث العنف للأجيال القادمة فدون محاسبة وتوثيق، يصبح العنف مشروعاً وقابلاً للتكرار.
ثم إنّ التغاضي أو التهاون في تطبيق العدالة الانتقالية هو تهديد حقيقي للسلم الأهلي والمجتمعي، إذ ستشرع البيبان لقضايا الثأر التي لن تنتهِ في الوقت القريب، فالثأر يولد ثأر، والدم لا ينسى بالتقادم، لذلك فإنّ القانون وتطبيق على شكل العدالة الانتقالية ضمان لوأد الآفات المجتمعية والعادات السلبية التي تتربص بالمجتمع السوري المنهك، ومرتبط ارتباطاً وثيقاً بقيام الدولة بواجباتها الأمنية على أكمل وجه وعدم إهمال أي شكوى أو ادعاء والتعامل معها ضمن الإجراءات القانونية والقضائية المتبعة فيعطى صاحب الحق حقه ويأخذ الجاني جزاءه تحت مضلة عدالة القانون.
وعليه فإنّ العدالة الانتقالية ليست ترفاً مجتمعياً أو سياسياً يمكن تأجيله لأهداف ترتأيها الدولة من قبيل، التمكين أو المصلحة العامة، إنما هي حقاً إنسانيا وركيزة مجتمعية قوية تستند عليها الدول التي تريد بناء مستقبلها على ركائز صلبة.