رأي – عبد السلام الحسين.
مع انتشار صورة لقائد هيئة تحرير الشام “أبو محمد الجولاني”، مرتدياً اللباس الرسمي “العلماني” حسب ما ينعته مقاتلو تنظيم القاعدة، رفقة الصحافي الأمريكي “مارتن سميث” في الثاني من شهر فبراير الجاري، أثيرت العديد من ردود الفعل الغاضبة والساخرة والذهول بين أواسط السوريين بشكل عام، وصفوف مقاتلي هيئة تحرير الشام والجماعات الجهادية الناشطة في محافظة إدلب السورية مثل حراس الدين وأنصار الإسلام وغيرهم على وجه الخصوص، فهل “الجولاني” هو القائد الوحيد الذي ارتدى اللباس الرسمي؟ أم أنّ معظم قادة الصف الأول لدى هيئة تحرير الشام أصبحوا يرتدونه الآن؟
لم يكن إعلان “أبو محمد الجولاني” فك ارتباطه عن تنظيم القاعدة في الشهر السابع من عام 2016، دليلاً واضحاً على تغيير سياسة “هيئة تحرير الشام” وانفتاحها نحو الخارج أو تبنيها لعلم الثورة السورية كما تفعل في الوقت الحالي، حتى عندما ظهر “الجولاني” على شاشة التلفاز معلناً فك ارتباطه عن القاعدة، ظهر مرتدياً زياً مشابهاً لزي الأب المؤسس لتنظيم القاعدة “أسامة بن لادن” وعلى جانبه “أبو الفرج المصري” -الذي قتل بغارة للتحالف الدولي شمالي سوريا في وقت سابق- تأكيداً على بقاء مكانة المهاجرين، وأنهم جزء لا يتجزأ من مجموعته الجديدة، عمد الجولاني بعد ذلك على تفكيك وتشتيت معظم فصائل المعارضة السورية التي كانت تشاركه في السيطرة على شمال سوريا، وتتبنى علم الثورة السورية مثل حركتي أحرار الشام الإسلامية ونور الدين الزنكي.
منذ انعقاد المؤتمر الأول لتشكيل حكومة الإنقاذ السورية أواخر عام ٢٠١٧ قرب معبر باب الهوى شمالي سوريا، والتي باتت ترفع علم الثورة السورية في مكاتب دوائرها في الشمال السوري بشكل رسمي، بدأت قيادة تحرير الشام اتخاذ مسار جديد، حاولت فيه بالاتفاق مع قياداتها من ذوي الصف الأول تغيير الصورة النمطية الجهادية لها، وإبعاد نفسها عن دائرة قائمة الإرهاب الدولية، تماشياً مع السياسة الدولية، وربما لشعورها أنها سوف تواجه العديد من الخسائر على الأرض في الشمال السوري، ما لم تجد أي حضن من الدول الإقليمية كي تسند نفسها عليه، وتحافظ على ما تبقى من الأراضي التي تسيطر عليها في شمالي غربي سوريا.
يعتبر تشكيل حكومة الإنقاذ برعاية هيئة تحرير الشام، حجر الأساس الأول في مسارها الجديد لتغيير سياستها، واقترابها من العمل السياسي والإداري التنظيمي، مستفيدةً من أخطاءها وتجاربها السابقة، للظهور كمنظمة عسكرية إسلامية معتدلة أمام الولايات المتحدة الأمريكية والمجتمع الدولي الذي يراها منظمة إرهابية رغم جميع محاولاتها في التغيير، وتمكنها من تحجيم دور تنظيم حراس الدين فرع تنظيم القاعدة في سوريا.
تحسين الصورة النمطية لا يزال هدف الهيئة الحالي
في الثاني عشر من شهر فبراير من العام الحالي، أقامت هيئة تحرير الشام (جناح الإدارة العامة – مكتب الطلبة) حفلاً تكريمياً لـ65 عنصراً من عناصرها الطلاب من خريجي جامعة ادلب، وذلك في مدينة سرمدا شمال محافظة ادلب، وسط حضور معظم قيادات الصف الأول من هيئة تحرير الشام، ومنهم: عبد الرحيم عطون الملقب “أبو عبد الله الشامي” رئيس المكتب الشرعي لدى الهيئة، حكيم الديري الملقب “أبو تراب” رئيس الجهاز الأمني، “أبو أحمد حدود” قائد قطاع الحدود، الدكتور “يوسف الهجر” مدير المكتب السياسي ونائبه “رماح الجزراوي”، بالإضافة لكل من القياديين الشهيرين أبو “ماريا القحطاني” و”مظهر الويس”.
ليس غريباً حضور قيادات الصف الأول لدى هيئة تحرير الشام في ذلك الحفل، لكن اللافت أنّ معظم القياديين كانوا يرتدون اللباس الرسمي، أو ما شابه ذلك، مثل عبد الرحيم عطون، وحكيم الديري الذين ظهروا لأول مرة بهذا الزي، على عكس عادتهم، والذين اعتادوا الظهور باللباس السلفي الجهادي المعتاد.
أحد الطلاب المتخرجين “محمود أبو عمر” من الذين حضروا الاجتماع قال لموقع نهر ميديا: “أصبت بالدهشة عندما رأيت كل من رئيسي المكتب الشرعي والمكتب الأمني بهذا اللباس، وكانت أول مرة لي أشاهدهم يرتدونه، وما أثار دهشتي أكثر، أن معظم قياديي الهيئة قاموا بتخفيف لحاهم، وهذا ليس من عادتهم أبداً، وأنا الذي كنت اجتمع بهم كل شهرين مرة واحدة على الأقل”.
التغيرات الأخيرة التي طرأت على “هيئة تحرير الشام ضمن سياق الحياة الاجتماعية كثيرةٌ نوعاً ما، ومن أبرزها: الحد من نشاطات مراكز الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر (مراكز الفلاح)، بالإضافة للسماح بالاختلاط في الجامعات والشوارع والسماح ببيع الدخان على عكس ما جرت عليه العادة في وقت سابق، بالإضافة إلى ذلك، سمحت هيئة تحرير الشام بالتدخين وتخفيف اللحية لعناصرها، ومنع رفع راية العقاب الذي يتبناها تنظيم الدولة الإسلامية وأخد الصور معها.
الانفتاح نحو الخارج سياسياً
تثبت سيكولوجيا هيئة تحرير الشام الأخيرة في تعاملها مع جميع الأطراف الداخلية والخارجية أنها عازمة ولاهثة للانفتاح نحو الخارج، والعمل ضمن الإطار السياسي بشكل أكبر من السابق، لا سيما أنها تملك مكتباً سياسياً لا بأس به، يديره الدكتور “يوسف الهجر”، وكأنها تقول انها قادرة على التعامل والتنسيق مع أطراف دولية سياسية بشرط إزالة اسمها من قوائم الإرهاب الدولية.
أنجز المكتب السياسي لدى الهيئة في الفترة الأخيرة، عدداً من الأعمال منها التنسيق مع السفارة اليابانية لتسليم أحد الصحفيين التي قالت الهيئة أنه كان محتجزاً لدى أحد العصابات النشطة في إدلب، حيث تمكنت الهيئة من تحريره منها على حد قولها، إلا أنّ تقارير إعلامية نفت ذلك واتهمت الهيئة باعتقاله وإخفائه في سجونها في وقت سابق.
ما تحاول هيئة تحرير الشام استعراضه هو أنها مستعدة للانفتاح نحو الخارج، والتعاون مع جهات دولية وإقليمية، في سبيل إبقاء إحكام سيطرتها على المناطق التي تديرها حالياً شمالي سوريا، وكذلك أنها قادرة على تقديم المزيد من التغيرات والتنازلات مستقبلاً، إن تم دعمها ورعايتها ومشاركتها فيما تسعى إليه.
حزب جديد ربما سينطلق قريباً
يرى الكثير من الباحثين والمحللين المهتمين في نشاطات الجماعات الجهادية المسلحة شمالي سوريا، أنّ التطورات الأخيرة التي طرأت على سياسة هيئة تحرير الشام ونشاطاتها الأخيرة، تشير إلى أنّ هنالك شيء ما تسعى هيئة تحرير الشام لإظهاره عمّا قريب، ومن المستبعد أن تكون هناك أي تفاهمات دولية جديدة حول إزالة اسم “هيئة تحرير الشام” من قوائم الإرهاب الدولية في الوقت الحالي، لا سيما بعد ما نشره برنامج مكافأت من أجل العدالة الأمريكي على موقع تويتر عن “أبو محمد الجولاني” بعد لقائه الأخير مع الصحافي الأمريكي “مارتن سميث”.
لكن في المرحلة الحالية من الوارد جداً أن تكون “هيئة تحرير الشام” تسعى لتشكيل حزب سياسي جديد، ليكون الجناح السياسي لها، لا سيما أن وضعها التنظيمي الحالي أفضل من السابق مع تشكيلها لحكومة الإنقاذ السورية، حيث تأمل أن يكون لها نصيب في مشاركة حزبها بالمرحلة السياسية الجديدة، كونها أحد أطراف الصراع، وذات قوة عسكرية لا بأس بها على الأرض السورية، ويعيش ضمن مناطق سيطرتها أكثر من أربعة ملايين نسمة من الشعب السوري.
ضغوطات الهيئة مستمرة على حراس الدين
تزداد الضغوطات التي تمارسها “هيئة تحرير الشام” على تنظيم حراس الدين فرع تنظيم القاعدة في سوريا، يوماً بعد يوم، حيث كان من المتوقع الإفراج عن “أبو عبد الرحمن المكي” مدير المكتب الشرعي لدى التنظيم وأحد أعضاء مجلس شورتها مع مساعديه “سهل الجزراوي” و”خلاد الجوفي”، وذلك بسبب سوء حالته الصحية وعدم إثبات أي دليل علي تورطه في التحريض ضد هيئة تحرير الشام حسب التهمة التي وجهتها الهيئة له، إلا أنّ الهيئة لا تزال مستمرة بعمليات الاعتقال ضد عناصر التنظيم، في مناطق متفرقة من محافظة إدلب، كان أبرزها اعتقال القيادي البارز في التنظيم “أبو عبد الرحمن الأردني” والذي لم يمضِ على تعيينه رئيساً للمكتب الشرعي سوى بضعة أيام فقط.
ربما تحاول هيئة تحرير الشام من خلال ضغوطاتها المستمرة على تنظيم “حراس الدين” إيصال رسالة إلى الولايات المتحدة الأمريكية والمجتمع الدولي أنها تحارب التطرف، وقادرة على اجتثاث التنظيم من محافظة إدلب بشكل كامل، ولا سيما أنها استطاعت إنهاء عمله العسكري ضد قوات النظام السوري والمليشيات الموالية له شمالي سوريا، رغم جميع الوساطات التي تقدم بها كل من الحزب الإسلامي التركستاني ومجموعة أنصار الدين لإعادة تفعيل دور عمل التنظيم عسكرياً بشكل مستقل إلا أن قيادة تحرير الشام لا تزال ترفض ذلك.
تثير الإجراءات الأخيرة لـ “هيئة تحرير الشام” الكثير من الشكوك حول إمكانية تحقيق إلى ما تسعى إليه الهيئة، بينما يرى آخرون أنّ ما تسعى له قيادة “هيئة تحرير الشام” هو محض فقاعة وأوهام مراهقة يحاول بها زعيم الهيئة “أبو محمد الجولاني” إقناع قادة الصف الأول وتجمع المؤيدين والأنصار من حوله بتحقيقها في المستقبل القريب، إلا أن من غير عادة سياسة الولايات المتحدة الأمريكية والمجتمع الدولي القبول بذلك، وحتى لو تحولت الهيئة لحزب إسلامي معتدل أو ليبرالي أو يساري!.
ربما تساعد الضغوطات التي تقوم بها الهيئة على تنظيم القاعدة في سوريا، بتحسين العلاقة أو غض نظر الولايات المتحدة الأمريكية وباقي الدول الإقليمية المشاركة في الصراع السوري عن الهيئة وتقديم بعض الدعم والتسهيلات بشكل خفي، ولكن سيكون ذلك بشكل مؤقت أو لمرحلة ما فقط، وستبقى “تحرير الشام” منظمة إرهابية محلية في نظر الولايات المتحدة الأمريكية والمجتمع الدولي ما دام “أبو محمد الجولاني” على رأسها هو وأصدقائه من الذين عملوا سابقا مع خليفة تنظيم الدولة الإسلامية السابق “أبو بكر البغدادي” أمثال “أبو ماريا القحطاني” وغيره الكثير.